كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأيضًا يقال: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلًا وكَلاَلَةً: إذا أعيا وذهبت قوَّته، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة، من غير أولاد لبعدها.
وأيضًا فإنَّهُ تعالى قال: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ، وهما لا يرِثان مع وجود الأب.
وروى جابر قال: مَرِضْتُ مَرَضًا شديدًا أشرفتُ منه على الموت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة، وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ.
وروي عن عمر أيضًا أنَّهُ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها، ضرب بيده صدري وقال: «يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ»، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئًا.
وقيل: {الكلالة}: المالُ الموروث، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ.
وقيل: {الكلالة} القرابة، وقيل: الوراثة.
فقد تلخص مما تقدم أنَّها [إمَّا] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ، أو المال الموروثُ، أو الإرْث، أو القرابة.
وأما اشتقاقها: فقيل: هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء، أي: أحاط به، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولدًا ولا والدًا فقط انقطع طَرَفَاهُ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ، أي: يحيط به كالإكْليلِ.
ومنه الروضة المكللة أي: بالزَّهْرِ، وعليه قول الفرزدق: [الطويل]
وَرِثْتُمْ قَنَاةَالمَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ ** عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ

وقيل: اشتقاقها من الكلال وهو الإعْيَاء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: والكلالة في الأصل: مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء.
قال الأعشى: [الطويل]
فَآلَيْتَ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ ** وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّدًا

فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة، وأجاز فيها أيضًا أن تكون صفة على وزن فَعَالة، قال: كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ.
ويقال: رجل كلالة، وامرأةٌ كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة.
إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله، فتقول: يجوز في كان وجهان:
أحدهما: أن تكون ناقصة ورجل اسمها، وفي الخبر احتمالان:
أحدهما: أنه كلالة إن قيل: إنها الميت، وإن قيل: إنَّها الوارث، أو غير ذلك، فَتُقَدَّر حذف مضاف، أي: ذَا كلالة، ويورث حينئذٍ في محلِّ رفع صفة لرجل وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ، وهو ضمير الرَّجُلِ.
والثَّاني: محذوف تقديره: يورث هو مَالَهُ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من ورث الثُّلاثي أو أورث الرُّبَاعيُّ؟.
فيه خلافٌ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى المفعول الأوَّلِ من المفعولين بمن فإنَّهُ قال وإن كان رجل يورث من كلالة ويورث من وَرِثَ أي: يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى بمِنْ. قال: وقد تُحْذَفُ، تقولُ: وَرِثْتُ زَيْدًا مَالَهُ أي: مِنْ زَيْد، ولَمّا جَعَلَهُ الرَّجُلَ وارثًا لا موروثًا، فإنَّهُ قال: فإنْ قلتَ: فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من أورث فما وَجْهُهُ.
قلتُ: الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ.
وقال أبُو حيَّان: إنَّه من أورث الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ.
الاحتمالُ الثَّاني: أن يكون الخبرُ الجملة من يورث.
وفي نَصْبِ {كَلاَلَةً} أربعةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ حال من الضمير في يورث، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ، أو الوارثُ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ، أي: يُورث ذا كَلاَلَةٍ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في {يُورَثُ}.
قال أبُو البَقَاءِ: على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ {كلالةٌ} بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في {يُورَثُ} لجاز، غير أنِّي لم أعرف أحدًا قَرَأ به، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ. يعني بكونها صفةً: أنَّهَا صفةٌ لـ {رَجُل}.
الثَّاني: أنَّهَا مفعولٌ من أجله، إنْ قيل: إنَّهَا بمعنى القرابة، أي: يُوْرَثُ لأجل الكلالة.
الثَّالثُ: أنَّهُ مفعول ثَانٍ لـ {يُورَثُ} إن قيل: إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ.
الرَّابعُ: أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ، إن قيل: إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ، أي: يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ.
وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره: ذَات كَلاَلَةٍ.
الوجه الثَّاني من وجهي كان أن تكون تَامَّةً، فيُكْتَفى بالمرفوع، أي: وإن وُجِدَ رجل. و{يُورَثُ} في محلِّ رفع صِفَةٍ لرَجُل و{كَلاَلَةً} منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال، أو المفعول من أجله أو المفعول به، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ، وهو أن تَكُونَ {كَلاَلَةً} منصوبة على التمييزِ.
قال مَكِّيٌّ: كان أي: وقع، و{يُورَثُ} نعت للرَّجُل ورجل رفع بكان و{كَلاَلَةً} نصب على التفسير.
وقيا: هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين، وفي جعلها تَفْسيرًا- أي: تمييزًا- نظرٌ لا يَخْفى.
وقرأ الجمهور: {يُورَثُ} مبنيًّا للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه.
وقرأ الحسن: يورث مبنيًّا للفاعل، ونُقِلَ عنه أيضًا، وعن أبي رَجَاءَ كذلك، إلاّ أنَّهُما شدَّدا الراء، وتوجيه القراءتين واضح مِمّا تقدَّم، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ، فيكون المفعولان محذوفين، و{كَلاَلَةً} نَصْبٌ على الحال، أي: وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً.
وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله، والمفعولان أيضًا محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولًا ثانيًا، والأوَّلُ محذوفٌ أي: يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس، أي: يُورِثُ مالَهُ أهلَه.
قوله: {أَو امرأة} عطف على {رَجُلٌ} وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التَّقديرُ: أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلاّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ.
وقوله: {وَلَهُ أَخٌ} جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحال إمَّا {رَجُلٌ} أي: إنْ كان {يُورَثُ} صفةً له، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في {يُورَثُ} وَوَحَّدَ الضمير في قوله: وله؛ لأنَّ العطف بأو وما ورد على خلاف ذلك أوَّلَ عند الجمهور كقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135].
فإن قيل: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة} ثم قال: {وَلَهُ أَخٌ} فهي عن الرَّجُلِ، وما هي عن المرأة، فما السَّبَبُ فيه؟.
فالجوابُ: قال النُّحَاةُ: إذا تقدَّمَ متعاطفان بأو مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ، فتقول: زيدٌ أو هندُ قامَ وَإنْ شئت: قَامَتْ.
وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه:
أحدُها: أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به.
والثَّالِثُ: أنَّهُ يعود على الميِّت، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه، والضَّمير في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} فيه وجهان:
أحدُهُمَا: أنَّهُ يعود على الأخ والأخت.
والثَّانِي: أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ، وعلى أخيه وأخته، إذا أُريدُ بالرَّجُلِ في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ.
قال الزَّمخشريُّ- بعد ما حكيناه عنه-: فإن قلتَ: فالضَّمِيرُ في قوله: {فلكل واحد منهما} إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ؟.
قلت: على الرَّجُلِ، وعلى أخيه، أو أخته، وعلى الأوَّل إليهما.
فإن قُلْتَ: إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه؟.
قلتُ: نَعَمْ، لأنك إذا قلتَ: السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى. انتهى.
وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك، وهو كون للأخت النّصف، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ. وقرأ أبيٌّ أخ أو أخت من الأم.
وقرأ سعد بن أبي وقاص من أم بغير أداة التَّعريف.
قوله: {فَإِن كانوا} الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} والمرادُ الذُّكورُ والإناث، وأتى بضمير الذُّكور في قوله: {كانوا} وقوله: {خَلْفِهِمْ} تغليبًا للمذكَّر على المؤنَّثِ، وذلك إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائدًا على الواحد؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال: هذا أكثرُ من واحد بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاّ فالواحدُ لا كثرة فيه، وتقدَّمَ إعراب من بعد وصية يوصى بها.
قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} {غير} نَصْبٌ على الحال من الفاعل في يوصَى، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ}، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام، كما دلَّ عليه في قوله: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، أي: تَرَكَهُ الموروث، فصار التقدير: يوصَى بها الموروثُ، وهكذا أعْرَبَهُ الناس فجعلوه حالًا: الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره.
وَردَّهُ أبو حيَّان، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال وعامِلها بأجنبيِّ منهما، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها {يوصى} كما تقرَّرَ.
وقوله: {أَوْ دَيْنٍ} أجنبي؛ لأنَّهُ معطوف على {وَصِيَّةٍ} الموصوفة بالعامل في الحال.
قال: ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب: من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين.
وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين: أعني ناء الفعلِ للفاعل، أو المفعول، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهًا آخَر، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه، ألا ترى أنَّكَ لو قلت: ترسل الرياح مبشرًا بها بكسر الشين يعني يرسل الله الرياح مبشرًا بها فحذفت الفاعل، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ، فكذلك هذا، ثم خَرَّجه على أحد وجهين:
إما بفعل يَدُّلُ عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عامًا لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن، وتقديره: يلزمُ ذلك مالَهُ، أو يوجبه [فيه] غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب.
وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه، أي: يوصي غير مُضارٍّ، فيصيرُ نظير قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36، 37] على قراءة من قرأ بفتح الباء.